قصة بناء برج الجزيرة
اذا كانت باريس تباهى العالم ببرج إيفل، وإيطاليا تجتذب السياح ببرج بيزا المائل، فالقاهرة تفتخر أيضاً ببرج القاهرة الذى يتوسط فرعى النيل، ورُوعى فى تصميمه، وارتفاعه أن يكون فريداً من نوعه فى الشرق الأوسط.
برج القاهرة تحفة معمارية، بنى على شكل زهرة اللوتس الفرعونية، رمزاً لحضارتهم العريقة، ويعد أحد المزارات التى تجتذب السائحين
من أنحاء العالم.
أنشئ فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر بين عامى ١٩٥٦و١٩٦١ من الخرسانة المسلحة، و يقع فى قلب القاهرة على جزيرة الزمالك بنهر النيل، ويصل ارتفاعه إلى ١٨٧ متراً، وهو ما يجعله أعلى مبنى فى العاصمة، بل يزيد فى ارتفاعه عن الهرم الأكبر بحوالى ٤٣ متراً.
يتكون من ١٦ طابقاً، ويقف على قاعدة من أحجار الجرانيت الأسوانى، التى سبق أن استخدمها
المصريون القدماء فى بناء معابدهم، ويوجد فى قمته مطعم سياحى على منصة دوارة، تلف برواده، ليرى من بداخله معالم القاهرة من كل اتجاه.
اشترك فى بنائه ٥٠٠ عامل، وتكلف ٦ ملايين جنيه، أعطتها الولايات المتحدة لمصر،
بهدف التأثير على موقفها المؤيد للقضية الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسى.
يقول المؤرخ العسكرى جمال حماد: إن البرج كان له اسمان، فالأمريكان أطلقوا عليه «شوكة عبدالناصر»، أما المصريون فأطلقوا عليه اسم «وقف روزفلت»، نسبة إلى الرئيس الأمريكى «فرانكلين روزفلت»، ويعتبر رمزاً لأكبر وأطول «لا» فى التاريخ، لأن الملايين الستة لم تخدع عيون الرئيس عبدالناصر ليغير موقفه
تجاه القضايا العربية، بل ورفض حتى أن يخصصها للإنفاق على البنية الأساسية،
رغم احتياج البلاد لهذا المبلغ آنذاك، ولكن عبدالناصر أراد أن يبنى علماً يظل بارزاً مع الزمن على كرامة مصر، حتى وإن كانت فى أشد الاحتياج.
الستة ملايين جاء بها حسن التهامى، مستشار رئيس الجمهورية، وقتها وسلمها للرئيس بعد عودته من زيارة للولايات المتحدة.
أضاف إيهاب حسن، مدير برج القاهرة ، إن عبدالناصر قام بتكليف المهندس «نعوم شبيب» اللبنانى الجنسية، المشهور بتصميماته للعديد من المنشآت والمبانى العالمية والمصرية، ومنها الكاتدرائية المرقسية، لتصميم البرج، واشترك معه المهندس عقيد عز الدين فرج، وأشرف على البناء اللواء حلمى نجيب سويلم، واستغرق ٥ سنوات،و تجرأ «نعوم» فى صنع الخرسانة المسلحة، ووضع أسطحاً خارجية أنيقة وخفيفة وشفافة تقريباً للبرج بارتفاعات غير مسبوقة فى مصر وقتها، ولم تكن تتوافر تكنولوجيا البناء الميسرة له، لمبنى رفيع وحاد برؤية تحمل الكثير من الحداثة للمدينة.
وقال «إيهاب»: هناك روايات حول هذا البناء، منها أن جمال عبدالناصر وأعضاء مجلس قيادة
الثورة كانوا يبحثون مسألة بناء برج لاسلكى للاتصالات العالمية، التى تقوم بها وزارة الخارجية وإدارات المخابرات، وقيل لعبدالناصر إنه سبق أن تم شراء بعض المعدات، ولما وجد أنه ليست هناك أموال مرصودة فى الميزانية لهذا الأمر، قيل له إن المال جاء من اعتماد أمريكى خاص، ودهش عبدالناصر..
إذ كانت هذه أول مرة يسمع فيها بوجود مثل هذا الاعتماد الخاص، وقيل له عندئذ إن وكالة المخابرات الأمريكية وضعت تحت تصرف اللواء محمد نجيب ٣ ملايين دولار.
وكان المبلغ قد تم تسليمه بواسطة عميل أمريكى فى حقيبة ضخمة، وسلمت الحقيبة فى الواقع إلى ضابط فى المخابرات المصرية، كان يعمل كضابط
اتصال بين المخابرات المصرية ووكالة المخابرات الأمريكية، وتمت عملية الدفع والتسلم فى بيت العميل الأمريكى بناحية المعادى، واستشاط عبدالناصر غضباً عندما سمع بذلك.. وتوجه بالسيارة فوراً إلى مجلس الوزراء، وطلب تفسيراً من محمد نجيب، الذى كان آنذاك رئيساً للوزراء.
وأصر «نجيب» على أنه فهم أنه ليس للمخابرات الأمريكية علاقة بذلك المبلغ، وأنه مرسل من الرئيس أيزنهاور، الذى خصص اعتماداً مالياً لبعض رؤساء الدول ليتمكنوا من تجاوز مخصصاتهم المقيدة بالميزانية من أجل الدفاع عن أنفسهم وعن بلادهم ضد الشيوعية، وهنا طلب عبدالناصر إيداع المال فى خزينة إدارة المخابرات، وأمر
بعدم صرف أى شىء منه إلا بإذن من مجلس قيادة الثورة.
وفى النهاية
بنى البرج.. وكان مخططاً له فى الأصل أن يكون برجاً بسيطاً وعملياً يعلوه
هوائى لاسلكى وشبكة أسلاك تنحدر إلى الأسفل، لكن عبدالناصر قرر أن يبنيه كنصب يشهد على حماقة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، فاستخدم الأموال كلها لبناء البرج الفخم المزركش، الذى يطل على منظر القاهرة كلها.
ويتابع «إيهاب» قائلاً: «فى مؤتمر للفدائيين الفلسطينيين بالقاهرة وقف عبدالناصر
فى شرفة فندق هيلتون وتطلع إلى برج القاهرة، وقال هازئاً ومشيراً إلى البرج: «لا تتكلموا.. واحذروا، إننا موضع مراقبة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية».
ولم يتوقف دور البرج خلال فترة الستينيات عند كونه معلماً سياحياً بارزاً، وإنما تجاوز ذلك عندما تحول إلى مركز رئيسى لبث الإذاعات السرية والعلنية، التى انطلقت من القاهرة لتغطى قارتى أفريقيا وآسيا، داعمة لحركات التحرر الوطنى.